الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب رُكُوبِ الْمُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ إِذَا انْصَرَفَ: قَوْله: «فَرَكِبَهُ حِين اِنْصَرَفَ مِنْ جِنَازَة اِبْن الدَّحْدَاح» فيه: إِبَاحَة الرُّكُوب فِي الرُّجُوع مِنْ الْجِنَازَة، وَإِنَّمَا يُكْرَه الرُّكُوب فِي الذَّهَاب مَعَهَا. وَابْن الدَّحْدَاح بِدَالَيْنِ وَحَاءَيْنِ مُهْمَلَات، وَيُقَال: أَبُو الدَّحْدَاح. وَيُقَال: أَبُو الدَّحْدَاحَة. قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: لَا يُعْرَف اِسْمه. قَوْله: «وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْله» فيه: جَوَاز مَشْي الْجَمَاعَة مَعَ كَبِيرهمْ الرَّاكِب، وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَة فيه فِي حَقّه وَلَا فِي حَقّهمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ فيه مَفْسَدَة، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ إِذَا حَصَلَ فيه اِنْتَهَاك لِلتَّابِعِينَ أَوْ خِيفَ إِعْجَاب وَنَحْوه فِي حَقِّ التَّابِع، أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِد. 1605- قَوْله: «فَعَقَلَهُ رَجُل فَرَكِبَهُ» مَعْنَاهُ: أَمْسَكَهُ لَهُ وَحَبَسَهُ. وَفيه: إِبَاحَة ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا بَأْس بِخِدْمَةِ التَّابِع مَتْبُوعه بِرِضَاهُ. قَوْله: «فَجَعَلَ يَتَوَقَّص بِهِ» أَيْ يَتَوَثَّب. قَوْله: «كَمْ مِنْ عِذْق مُعَلَّق» الْعِذْق هُنَا بِكَسْرِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة، وَهُوَ الْغُصْن مِنْ النَّخْلَة. وَأَمَّا الْعَذْق بِفَتْحِهَا فَهُوَ النَّخْلَة بِكَمَالِهَا وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمْ مِنْ عِذْق مُعَلَّق فِي الْجَنَّة لِأَبِي الدَّحْدَاح» قَالُوا: سَبَبه أَنَّ يَتِيمًا خَاصَمَ أَبَا لُبَابَة فِي نَخْلَة فَبَكَى الْغُلَام؛ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «أَعْطِهِ إِيَّاهَا وَلَك بِهَا عِذْق فِي الْجَنَّة»، فَقَالَ: لَا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو الدَّحْدَاح، فَاشْتَرَاهَا مِنْ أَبِي لُبَابَة بِحَدِيقَةٍ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلِيَ بِهَا عِذْقٌ إِنْ أَعْطَيْتهَا الْيَتِيم؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمْ عِذْق مُعَلَّق فِي الْجَنَّة لِأَبِي الدَّحْدَاح». .باب فِي اللَّحْدِ وَنَصْبِ اللَّبِنِ عَلَى الْمَيِّتِ: قَوْله: «اِلْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِن نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فيه: اِسْتِحْبَاب اللَّحْد وَنَصْب اللَّبِن، وَأَنَّهُ فُعِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ عَدَد لَبِنَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْع. .باب جَعْلِ الْقَطِيفَةِ فِي الْقَبْرِ: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيّ وَجَمِيع أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة وَضْع قَطِيفَة أَوْ مِضْرَبَة أَوْ مِخَدَّة وَنَحْو ذَلِكَ تَحْت الْمَيِّت فِي الْقَبْر، وَشَذَّ عَنْهُمْ الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا فَقَالَ فِي كِتَابه التَّهْذِيب: لَا بَأْس بِذَلِكَ لِهَذَا الْحَدِيث. وَالصَّوَاب كَرَاهَته، كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُور، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّ شُقْرَان اِنْفَرَدَ بِفِعْلِ ذَلِكَ لَمْ يُوَافِقهُ غَيْره مِنْ الصَّحَابَة وَلَا عَلِمُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ شُقْرَان لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ مِنْ كَرَاهَته أَنْ يَلْبَسهَا أَحَد بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسهَا وَيَفْتَرِشهَا فَلَمْ تَطِبْ نَفْس شُقْرَان أَنْ يَسْتَبْدِلهَا أَحَد بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالَفَهُ غَيْره فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُجْعَل تَحْت الْمَيِّت ثَوْب فِي قَبْره، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْقَطِيفَة: كِسَاء لَهُ خَمْل. قَوْله: (قَالَ مُسْلِم: أَبُو جَمْرَة اِسْمه نَصْر بْن عِمْرَان الضُّبَعِيُّ، وَأَبُو التَّيَّاح: يَزِيد بْن حُمَيْدٍ مَاتَا بِسَرَخْس) وَهُوَ أَبُو جَمْرَة بِالْجِيمِ، وَالضُّبَعِيُّ بِضَمِّ الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْبَاء الْمُوَحَّدَة. وَأَمَّا سَرَخْس فَمَدِينَة مَعْرُوفَة بِخُرَاسَان، وَهِيَ بِفَتْحِ السِّين وَالرَّاء وَإِسْكَان الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَيُقَال أَيْضًا بِإِسْكَانِ الرَّاء وَفَتْح الْخَاء وَالْأَوَّل أَشْهَر. وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِم اِبْن جَمْرَة وَأَبَا التَّيَّاح جَمِيعًا مَعَ أَنَّ أَبَا جَمْرَة مَذْكُور فِي الْإِسْنَاد وَلَا ذِكْر لِأَبِي التَّيَّاح هُنَا؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَشْيَاء قَلَّ أَنْ يَشْتَرِك فيها اِثْنَانِ مِنْ الْعُلَمَاء؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا ضُبَعِيَّانِ بَصْرِيَّانِ تَابِعِيَّانِ ثِقَتَانِ مَاتَا بِسَرَخْس فِي سَنَة وَاحِدَة، سَنَة ثَمَان وَعِشْرِينَ وَمِائَة، وَذَكَرَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَابْن مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْم الْأَصْبَهَانِيُّ عِمْرَان وَالِد أَبِي جَمْرَة فِي كُتُبهمْ فِي مَعْرِفَة الصَّحَابَة، قَالُوا: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ هُوَ صَحَابِيّ أَمْ تَابِعِيّ؟ قَالُوا: وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْبَصْرَة، رَوَى عَنْهُ اِبْنه أَبُو جَمْرَة وَغَيْره، قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمَد فِي كِتَابه فِي الْكُنَى: لَيْسَ فِي الرُّوَاة مَنْ يُكَنَّى أَبَا جَمْرَة بِالْجِيمِ غَيْر أَبِي جَمْرَة هَذَا. .باب الأَمْرِ بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ: قَوْله: (كُنَّا مَعَ فَضَالَة بِأَرْضِ الرُّوم بِرُودِس) هُوَ بِرَاءٍ مَضْمُومَة ثُمَّ وَاو سَاكِنَة ثُمَّ دَال مُهْمَلَة مَكْسُورَة ثُمَّ سِين مُهْمَلَة. هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي صَحِيح مُسْلِم، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضهمْ بِفَتْحِ الرَّاء، وَعَنْ بَعْضهمْ بِفَتْحِ الدَّال، وَعَنْ بَعْضهمْ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة. وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ فِي السُّنَن بِذَالٍ مُعْجَمَة وَسِين مُهْمَلَة، وَقَالَ: هِيَ جَزِيرَة بِأَرْضِ الرُّوم، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: ذَكَرَ مُسْلِم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تَكْفِين النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْبَاره، وَلَمْ يَذْكُر غُسْله وَالصَّلَاة عَلَيْهِ. وَلَا خِلَاف أَنَّهُ غُسِّلَ، وَاخْتُلِفَ هَلْ صُلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقِيلَ: لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَد أَصْلًا، وَإِنَّمَا كَانَ النَّاس يَدْخُلُونَ أَرْسَالًا يَدْعُونَ وَيَنْصَرِفُونَ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي عِلَّة ذَلِكَ، فَقِيلَ: لِفَضِيلَتِهِ فَهُوَ غَنِيّ عَنْ الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَهَذَا يَنْكَسِر بِغُسْلِهِ، وَقِيلَ: بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِمَام، وَهَذَا غَلَط فَإِنَّ إِمَامَة الْفَرَائِض لَمْ تَتَعَطَّل، وَلِأَنَّ بَيْعَة أَبِي بَكْر كَانَتْ قَبْل دَفْنه، وَكَانَ إِمَام النَّاس قَبْل الدَّفْن، وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهُمْ صَلُّوا عَلَيْهِ فُرَادًى، فَكَانَ يَدْخُل فَوْج يُصَلُّونَ فُرَادًى ثُمَّ يَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَدْخُل فَوْج آخَر فَيُصَلُّونَ كَذَلِكَ، ثُمَّ دَخَلْت النِّسَاء بَعْد الرِّجَال ثُمَّ الصِّبْيَان، وَإِنَّمَا أَخَّرُوا دَفْنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْم الِاثْنَيْنِ إِلَى لَيْلَة الْأَرْبِعَاء أَوَاخِر نَهَار الثُّلَاثَاء لِلِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْبَيْعَة لِيَكُونَ لَهُمْ إِمَام يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْله إِنْ اِخْتَلَفُوا فِي شَيْء مِنْ أُمُور تَجْهِيزه وَدَفْنه، وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، لِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاع وَاخْتِلَاف الْكَلِمَة، وَكَانَ هَذَا أَهَمُّ الْأُمُور. وَاَللَّه أَعْلَم. قَوْله: «يَأْمُر بِتَسْوِيَتِهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْته». فيه أَنَّ السُّنَّة أَنَّ الْقَبْر لَا يُرْفَع عَلَى الْأَرْض رَفْعًا كَثِيرًا، وَلَا يُسَنَّم، بَلْ يُرْفَع نَحْو شِبْر وَيُسَطَّح، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْأَفْضَل عِنْدهمْ تَسْنِيمهَا وَهُوَ مَذْهَب مَالِك. 1609- قَوْله: «أَلَّا تَدَع تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْته» فيه الْأَمْر بِتَغْيِيرِ صُوَر ذَوَات الْأَرْوَاح. قَوْله: (عَنْ أَبِي الْهَيَّاج) هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء وَتَشْدِيد الْيَاء، وَاسْمه حَيَّان بْن حُصَيْن. .باب النَّهْيِ عَنْ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ: وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «نَهَى عَنْ تَقْصِيص الْقُبُور». التَّقْصِيص- بِالْقَافِ وَصَادَيْنِ- هُوَ التَّجْصِيص. وَالْقَصَّة- بِفَتْحِ الْقَاف وَتَشْدِيد الصَّاد- هِيَ الْجِصّ، وَفِي هَذَا الْحَدِيث كَرَاهَة تَجْصِيص الْقَبْر وَالْبِنَاء عَلَيْهِ وَتَحْرِيم الْقُعُود، وَالْمُرَاد بِالْقُعُودِ الْجُلُوس عَلَيْهِ. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ: الْمُرَاد بِالْقُعُودِ الْجُلُوس، وَمِمَّا يُوَضِّحهُ الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة بَعْد هَذَا: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُور». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَأَنْ يَجْلِس أَحَدكُمْ عَلَى جَمْرَة فَتَحْرِقُ ثِيَابه فَتَخْلُص إِلَى جِلْده خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِس عَلَى قَبْر» قَالَ أَصْحَابنَا: تَجْصِيص الْقَبْر مَكْرُوه، وَالْقُعُود عَلَيْهِ حَرَام، وَكَذَا الِاسْتِنَاد إِلَيْهِ وَالِاتِّكَاء عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْبِنَاء عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِي مِلْك الْبَانِي فَمَكْرُوه، وَإِنْ كَانَ فِي مَقْبَرَة مُسَبَّلَة فَحَرَام. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ وَالْأَصْحَاب. قَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْأُمّ: وَرَأَيْت الْأَئِمَّة بِمَكَّة يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يُبْنَى، وَيُؤَيِّدُ الْهَدْمَ قَوْلُهُ: «وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْته». 1611- «نَهَى عَنْ تَقْصِيص الْقُبُور» التَّقْصِيص- بِالْقَافِ وَصَادَيْنِ- هُوَ التَّجْصِيص. وَالْقَصَّة- بِفَتْحِ الْقَاف وَتَشْدِيد الصَّاد- هِيَ الْجِصّ، وَفِي هَذَا الْحَدِيث كَرَاهَة تَجْصِيص الْقَبْر وَالْبِنَاء عَلَيْهِ وَتَحْرِيم الْقُعُود، وَالْمُرَاد بِالْقُعُودِ الْجُلُوس عَلَيْهِ. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ: الْمُرَاد بِالْقُعُودِ الْجُلُوس، وَمِمَّا يُوَضِّحهُ الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة بَعْد هَذَا: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُور». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَأَنْ يَجْلِس أَحَدكُمْ عَلَى جَمْرَة فَتَحْرِقَ ثِيَابه فَتَخْلُص إِلَى جِلْده خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِس عَلَى قَبْر» قَالَ أَصْحَابنَا: تَجْصِيص الْقَبْر مَكْرُوه، وَالْقُعُود عَلَيْهِ حَرَام، وَكَذَا الِاسْتِنَاد إِلَيْهِ وَالِاتِّكَاء عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْبِنَاء عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِي مِلْك الْبَانِي فَمَكْرُوه، وَإِنْ كَانَ فِي مَقْبَرَة مُسَبَّلَة فَحَرَام. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ وَالْأَصْحَاب. قَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْأُمّ: وَرَأَيْت الْأَئِمَّة بِمَكَّة يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يُبْنَى. وَيُؤَيِّد الْهَدْم قَوْله: «وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْته». .باب النَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ: 1613- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُور وَلَا تُصَلُّوا إِليْهَا» فيه تَصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاة إِلَى قَبْر. قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه: وَأَكْرَه أَنْ يُعَظَّم مَخْلُوق حَتَّى يُجْعَل قَبْره مَسْجِدًا مَخَافَة الْفِتْنَة عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ بَعْده مِنْ النَّاس. 1614- قَوْله: (عَنْ بُسْر بْن عُبَيْد اللَّه) هُوَ بِضَمِّ الْبَاء وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَة. قَوْله: (عَنْ أَبِي مَرْثَد) هُوَ بِالْمُثَلَّثَةِ وَاسْمه كَنَّاز بِفَتْحِ الْكَاف وَتَشْدِيد النُّون وَآخِره زَاي. .باب الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ فِي جَوَاز الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَد وَإِسْحَاق، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: وَرَوَاهُ الْمَدَنِيُّونَ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِك، وَبِهِ قَالَ اِبْن حَبِيب الْمَالِكِيّ، وَقَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك عَلَى الْمَشْهُور عَنْهُ: لَا تَصِحّ الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد بِحَدِيثِ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ» وَدَلِيل الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور حَدِيث سُهَيْل بْن بَيْضَاء، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث سُنَن أَبِي دَاوُدَ بِأَجْوِبَةٍ. أَحَدهَا: أَنَّهُ ضَعِيف لَا يَصِحّ الِاحْتِجَاج بِهِ، قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: هَذَا حَدِيث ضَعِيف تَفَرَّدَ بِهِ صَالِح مَوْلَى التَّوْأَمَة، وَهُوَ ضَعِيف. وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي فِي النُّسَخ الْمَشْهُورَة الْمُحَقَّقَة الْمَسْمُوعَة مِنْ سُنَن أَبِي دَاوُدَ: «وَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء عَلَيْهِ» وَلَا حُجَّة لَهُمْ حِينَئِذٍ فيه. الثَّالِث: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَدِيث وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: «فَلَا شَيْء» لَوَجَبَ تَأْوِيله عَلَى: «فَلَا شَيْء عَلَيْهِ» لِيَجْمَع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث وَحَدِيث سُهَيْل بْن بَيْضَاء، وَقَدْ جَاءَ (لَهُ) بِمَعْنَى (عَلَيْهِ)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}. الرَّابِع: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى نَقْص الْأَجْر فِي حَقّ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِد وَرَجَعَ وَلَمْ يُشَيِّعهَا إِلَى الْمَقْبَرَة لِمَا فَاتَهُ مِنْ تَشْيِيعه إِلَى الْمَقْبَرَة وَحُضُور دَفْنه. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيث سُهَيْل هَذَا دَلِيل لِطَهَارَةِ الْآدَمِيّ الْمَيِّت، وَهُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا. قَوْله: (وَحَدَّثَنِي هَارُون بْن عَبْد اللَّه وَمُحَمَّد بْن رَافِع قَالَا: حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي فُدَيْك أَخْبَرَنَا الضَّحَّاك- يَعْنِي اِبْن عُثْمَان- عَنْ أَبِي النَّضْر عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ عَائِشَة) هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، وَقَالَ: خَالَفَ الضَّحَّاك حَافِظَانِ مَالِك وَالْمَاجِشُون؛ فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي النَّضْر عَنْ عَائِشَة مُرْسَلًا، وَقِيلَ: عَنْ الضَّحَّاك عَنْ أَبِي النَّضْر عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَلَا يَصِحّ إِلَّا مُرْسَلًا. هَذَا كَلَام الدَّارَقُطْنِيِّ وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَاب عَنْ مِثْل هَذَا الِاسْتِدْرَاك فِي الْفُصُول السَّابِقَة فِي مُقَدِّمَة هَذَا الشَّرْح فِي مَوَاضِع مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة الَّتِي زَادَهَا الضَّحَّاك زِيَادَة ثِقَة وَهِيَ مَقْبُولَة؛ لِأَنَّهُ حَفِظَ مَا نَسِيَهُ غَيْره فَلَا تَقْدَح فيه. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. 1615- سبق شرحه بالباب. 1616- سبق شرحه بالباب. 1617- سبق شرحه بالباب. .باب مَا يُقَالُ عِنْدَ دُخُولِ الْقُبُورِ وَالدُّعَاءِ لأَهْلِهَا: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفيه أَنَّ اِسْم الدَّار يَقَع عَلَى الْمَقَابِر قَالَ: وَهُوَ صَحِيح فَإِنَّ الدَّار فِي اللُّغَة يَقَع عَلَى الرَّبْع الْمَسْكُون وَعَلَى الْخَرَاب غَيْر الْمَأْهُول، وَأَنْشَدَ فيه. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّه بِكُمْ لَاحِقُونَ» التَّقْيِيد بِالْمَشِيئَةِ عَلَى سَبِيل التَّبَرُّك وَامْتِثَال قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقِيلَ: الْمَشِيئَة عَائِدَة إِلَى تِلْكَ التُّرْبَة بِعَيْنِهَا، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِاسْتِحْبَابِ زِيَارَة الْقُبُور وَالسَّلَام عَلَى أَهْلهَا وَالدُّعَاء لَهُمْ وَالتَّرَحُّم عَلَيْهِمْ. قَوْلهَا: «يَخْرُج مِنْ آخِر اللَّيْل إِلَى الْبَقِيع» فيه فَضِيلَة زِيَارَة قُبُور الْبَقِيع. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّلَام عَلَيْكُمْ دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: فيه أَنَّ السَّلَام عَلَى الْأَمْوَات وَالْأَحْيَاء سَوَاء فِي تَقْدِيم (السَّلَام) عَلَى (عَلَيْكُمْ) بِخِلَافِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ قَوْلهمْ: عَلَيْك سَلَام اللَّه قَيْس بْن عَاصِم وَرَحْمَته مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيع الْغَرْقَد» الْبَقِيع هُنَا بِالْبَاءِ بِلَا خِلَاف، وَهُوَ مَدْفِن أَهْل الْمَدِينَة، سُمِّيَ بَقِيع الْغَرْقَد؛ لِغَرْقَدٍ كَانَ فيه، وَهُوَ مَا عَظُمَ مِنْ الْعَوْسَج. وَفيه: إِطْلَاق لَفْظ الْأَهْل عَلَى سَاكِن الْمَكَان مِنْ حَيٍّ وَمَيِّت. 1619- قَوْله: حَدَّثَنَا هَارُون بْن سَعِيد الْأَيْلِيُّ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن وَهْب أَخْبَرَنَا اِبْن جُرَيْجٍ عَنْ عَبْد اللَّه بْن كَثِير بْن الْمُطَّلِب أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّد بْن قَيْس يَقُول: سَمِعْت عَائِشَة تُحَدِّث فَقَالَتْ: «أَلَا أُحَدِّثكُمْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِّي؟ قُلْنَا: بَلَى» (ح) وَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ حَجَّاجًا الْأَعْوَر وَاللَّفْظ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مُحَمَّد عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه رَجُل مِنْ قُرَيْش عَنْ مُحَمَّد بْن قَيْس بْن مَخْرَمَةَ بْن الْمُطَّلِب (أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: أَلَا أُحَدِّثكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي) إِلَى آخِره. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِم فِي إِسْنَاد حَدِيث حَجَّاج عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه رَجُل مِنْ قُرَيْش، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل، وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَأَبُو نُعَيْم الْجُرْجَانِيّ وَأَبُو بَكْر النَّيْسَابُورِيّ وَأَبُو عَبْد اللَّه الْجُرْجَانِيّ كُلّهمْ: عَنْ يُوسُف بْن سَعِيد الْمِصِّيصِيّ، حَدَّثَنَا حَجَّاج عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي مُلَيْكَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ عَبْد اللَّه بْن كَثِير بْن الْمُطَّلِب بْن أَبِي وَدَاعَة، قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ الْجَيَّانِيّ: هَذَا الْحَدِيث أَحَد الْأَحَادِيث الْمَقْطُوعَة فِي مُسْلِم قَالَ: وَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَحَادِيث الَّتِي وَهِمَ فِي رُوَاتهَا، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاق فِي مُصَنَّفه عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن قَيْس بْن مَخْرَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَة قَالَ الْقَاضِي: قَوْله: إِنَّ هَذَا مَقْطُوع لَا يُوَافَق عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مُسْنَد وَإِنَّمَا لَمْ يُسَمِّ رُوَاته فَهُوَ مِنْ بَاب الْمَجْهُول لَا مِنْ بَاب الْمُنْقَطِع، إِذْ الْمُنْقَطِع مَا سَقَطَ مِنْ رُوَاته رَاوٍ قَبْل التَّابِعِيّ. قَالَ الْقَاضِي: وَوَقَعَ فِي مُسْنَده إِشْكَال آخَر وَهُوَ: أَنَّ قَوْل مُسْلِم: (وَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ حَجَّاجًا الْأَعْوَر وَاللَّفْظ لَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مُحَمَّد) يُوهِم أَنَّ حَجَّاجًا الْأَعْوَر حَدَّثَ بِهِ عَنْ آخَر يُقَال لَهُ: حَجَّاج بْن مُحَمَّد، وَلَيْسَ كَذَا، بَلْ حَجَّاج الْأَعْوَر هُوَ حَجَّاج بْن مُحَمَّد بِلَا شَكٍّ، وَتَقْدِير كَلَام مُسْلِم حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ حَجَّاجًا الْأَعْوَر قَالَ هَذَا الْمُحَدِّث: حَدَّثَنِي حَجَّاج بْن مُحَمَّد؛ فَحَكَى لَفْظ الْمُحَدِّث. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، قُلْت: وَلَا يَقْدَح رِوَايَة مُسْلِم لِهَذَا الْحَدِيث عَنْ هَذَا الْمَجْهُول الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ عَنْ حَجَّاج الْأَعْوَر؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَهُ مُتَابَعَة لَا مُتَأَصِّلًا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ، بَلْ الِاعْتِمَاد عَلَى الْإِسْنَاد الصَّحِيح قَبْله. قَوْلهَا: «فَلَمْ يَلْبَث إِلَّا رَيْثَمَا» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَإِسْكَان الْيَاء وَبَعْدهَا ثَاء مُثَلَّثَة أَيْ قَدْر مَا. قَوْلهَا: «فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا» أَيْ قَلِيلًا لَطِيفًا لِئَلَّا يُنَبِّهَهَا. قَوْلهَا: «ثُمَّ أَجَافَهُ» بِالْجِيمِ أَيْ أَغْلَقَهُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُفْيَة لِئَلَّا يُوقِظهَا وَيَخْرُج عَنْهَا، فَرُبَّمَا لَحِقَهَا وَحْشَة فِي اِنْفِرَادهَا فِي ظُلْمَة اللَّيْل. قَوْلهَا: «وَتَقَنَّعْت إِزَارِي» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: «إِزَارِي» بِغَيْرِ بَاءَ فِي أَوَّله، وَكَأَنَّهُ بِمَعْنَى لَبِسْت إِزَارِي فَلِهَذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ. قَوْلهَا: «جَاءَ الْبَقِيع فَأَطَالَ الْقِيَام ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاث مَرَّات» فيه: اِسْتِحْبَاب إِطَالَة الدُّعَاء وَتَكْرِيره، وَرَفْع الْيَدَيْنِ فيه. وَفيه: أَنَّ دُعَاء الْقَائِم أَكْمَل مِنْ دُعَاء الْجَالِس فِي الْقُبُور. قَوْلهَا: «فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْت» الْإِحْضَار: الْعَدْوُ. قَوْلهَا: «فَقَالَ: مَا لَك يَا عَائِش حَشْيَا رَابِيَة» يَجُوز فِي عَائِش فَتْح الشِّين وَضَمّهَا، وَهُمَا وَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي كُلّ الْمُرَخَّمَات. وَفيه: جَوَاز تَرْخِيم الِاسْم إِذَا لَمْ يَكُنْ فيه إِيذَاء لِلْمُرَخَّمِ (وَحَشْيَا) بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الشِّين الْمُعْجَمَة مَقْصُور مَعْنَاهُ: وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْك الْحَشَا وَهُوَ الرَّبْو وَالتَّهَيُّج الَّذِي يَعْرِض لِلْمُسْرِعِ فِي مَشْيه وَالْمُحْتَدّ فِي كَلَامه مِنْ اِرْتِفَاع النَّفْس وَتَوَاتُره. يُقَال: اِمْرَأَة حَشْيَاء وَحَشْيَة وَرَجُل حَشْيَان وَحَشَش، قِيلَ: أَصْله مَنْ أَصَابَ الرَّبْو حَشَاهُ. وَقَوْله: (رَابِيَة) أَيْ مُرْتَفِعَة الْبَطْن. قَوْلهَا: «لَا بِي شَيْء» وَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول: «لَا بِي شَيْء» بِبَاءِ الْجَرّ، وَفِي بَعْضهَا: «لِأَيِّ شَيْء» بِتَشْدِيدِ الْيَاء وَحَذْف الْبَاء عَلَى الِاسْتِفْهَام، وَفِي بَعْضهَا: «لَا شَيْء» وَحَكَاهَا الْقَاضِي قَالَ: وَهَذَا الثَّالِث أَصْوَبهَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَنْتِ السَّوَاد» أَيْ الشَّخْص. قَوْلهَا: «فَلَهَدَنِي» هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَة، وَرُوِيَ: «فَلَهَزَنِي» بِالزَّايِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ. قَالَ أَهْل اللُّغَة: لَهَدَهُ وَلَهَّدَهُ بِتَخْفِيفِ الْهَاء وَتَشْدِيدهَا أَيْ دَفَعَهُ، وَيُقَال: لَهَزَهُ إِذَا ضَرَبَهُ بِجَمْعِ كَفّه فِي صَدْره، وَيَقْرَب مِنْهُمَا لَكَزَهُ وَوَكَزَهُ. قَوْله: «قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُم النَّاس يَعْلَمهُ اللَّه نَعَمْ» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول، وَهُوَ صَحِيح، وَكَأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُم النَّاس يَعْلَمهُ اللَّه صَدَّقَتْ نَفْسهَا فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَوْلهَا: «قُلْت: كَيْف أَقُول يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: قُولِي: السَّلَام عَلَى أَهْل الدِّيَار مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَم اللَّه الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَمِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» فيه: اِسْتِحْبَاب هَذَا الْقَوْل لِزَائِرِ الْقُبُور. وَفيه: تَرْجِيح لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: فِي قَوْله: «سَلَام عَلَيْكُمْ دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ» أَنَّ مَعْنَاهُ أَهْل دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ. وَفيه: أَنَّ الْمُسْلِم وَالْمُؤْمِن قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنًى وَاحِد، وَعَطْفُ أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فيها مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فيها غَيْر بَيْت مِنْ الْمُسْلِمِينَ} وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْحَدِيث غَيْر الْمُؤْمِن؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِن إِنْ كَانَ مُنَافِقًا لَا يَجُوز السَّلَام عَلَيْهِ وَالتَّرَحُّم. وَفيه: دَلِيل لِمَنْ جَوَّزَ لِلنِّسَاءِ زِيَارَة الْقُبُور، وَفيها خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ وَهِيَ ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: أَحَدهَا: تَحْرِيمهَا عَلَيْهِنَّ لِحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّه زَوَّارَات الْقُبُور». وَالثَّانِي: يُكْرَه. وَالثَّالِث: يُبَاح، وَيُسْتَدَلّ لَهُ بِهَذَا الْحَدِيث وَبِحَدِيث: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا» وَيُجَاب عَنْ هَذَا بِأَنْ نَهَيْتُكُمْ ضَمِير ذُكُور فَلَا يَدْخُل فيه النِّسَاء عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار فِي الْأُصُول. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .باب اسْتِئْذَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: سَبَب زِيَارَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرهَا أَنَّهُ قَصَدَ قُوَّة الْمَوْعِظَة وَالذِّكْرَى بِمُشَاهَدَةِ قَبْرهَا، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر الْحَدِيث: «فَزُورُوا الْقُبُور فَإِنَّهَا تُذَكِّركُمْ الْمَوْت». 1622- قَوْله: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة وَزُهَيْر بْن حَرْب قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُبَيْد عَنْ يَزِيد بْن كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: «زَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْر أُمّه فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْله فَقَالَ: اِسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِر لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَزُور قَبْرهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُور فَإِنَّهَا تُذَكِّركُمْ الْمَوْت» هَذَا الْحَدِيث وُجِدَ فِي رِوَايَة أَبِي الْعَلَاء بْن مَاهَان لِأَهْلِ الْمَغْرِب، وَلَمْ يُوجَد فِي رِوَايَات بِلَادنَا مِنْ جِهَة عَبْد الْغَافِر الْفَارِسِيّ، وَلَكِنَّهُ يُوجَد فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول فِي آخِر كِتَاب الْجَنَائِز وَيُصِيب عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَتَبَ فِي الْحَاشِيَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه عَنْ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن عُبَيْد بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَة عَنْ مُحَمَّد بْن عُبَيْد، وَرَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ مُحَمَّد بْن عُبَيْد، وَهَؤُلَاءِ كُلّهمْ ثِقَات، فَهُوَ حَدِيث صَحِيح بِلَا شَكٍّ. قَوْله: «فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْله» قَالَ الْقَاضِي: بُكَاؤُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ إِدْرَاك أَيَّامه، وَالْإِيمَان بِهِ. 1623- قَوْله: (مُحَارِب بْن دِثَار) هُوَ بِكَسْرِ الدَّال وَتَخْفِيف الْمُثَلَّثَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا» هَذَا مِنْ الْأَحَادِيث الَّتِي تَجْمَع النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ، وَهُوَ صَرِيح فِي نَسْخ نَهْي الرِّجَال عَنْ زِيَارَتهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ زِيَارَتهَا سُنَّة لَهُمْ، وَأَمَّا النِّسَاء فَفيهنَّ خِلَاف لِأَصْحَابِنَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ مَنَعَهُنَّ قَالَ: النِّسَاء لَا يَدْخُلْنَ فِي خِطَاب الرِّجَال، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ، وَأَمَّا الِانْتِبَاذ فِي الْأَسْقِيَة فَسَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث وَفْد عَبْد الْقَيْس، وَسَتَأْتِي بَقِيَّته فِي كِتَاب الْأَشْرِبَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَأَمَّا الْأَضَاحِيّ فَسَيَأْتِي إِيضَاحهَا فِي بَابهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. .باب تَرْكِ الصَّلاَةِ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسَهُ: قَالَ الْقَاضِي: مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة الصَّلَاة عَلَى كُلّ مُسْلِم وَمَحْدُود وَمَرْجُوم وَقَاتِل نَفْسه وَوَلَد الزِّنَا. وَعَنْ مَالِك وَغَيْره: أَنَّ الْإِمَام يَجْتَنِب الصَّلَاة عَلَى مَقْتُول فِي حَدٍّ، وَأَنَّ أَهْل الْفَضْل لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْفُسَّاق زَجْرًا لَهُمْ. وَعَنْ الزُّهْرِيّ: لَا يُصَلَّى عَلَى مَرْجُوم، وَيُصَلَّى عَلَى الْمَقْتُول فِي الْقِصَاص. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يُصَلَّى عَلَى مُحَارِب، وَلَا عَلَى قَتِيل الْفِئَة الْبَاغِيَة. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُصَلَّى عَلَى وَلَد الزِّنَا. وَعَنْ الْحَسَن: لَا يُصَلَّى عَلَى النُّفَسَاء تَمُوت مِنْ زِنًا وَلَا عَلَى وَلَدهَا. وَمَنَعَ بَعْض السَّلَف الصَّلَاة عَلَى الطِّفْل الصَّغِير. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاة عَلَى السِّقْط، فَقَالَ بِهَا فُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ وَبَعْض السَّلَف إِذَا مَضَى عَلَيْهِ أَرْبَعَة أَشْهُر، وَمَنَعَهَا جُمْهُور الْفُقَهَاء حَتَّى يَسْتَهِلّ وَتُعْرَف حَيَاته بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الشَّهِيد الْمَقْتُول فِي حَرْب الْكُفَّار فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: لَا يُغَسَّل وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يُغَسَّل وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَعَنْ الْحَسَن: يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .كتاب الزكاة: وَأَمَّا الذَّهَب: فَعِشْرُونَ مِثْقَالًا. وَالْمُعَوَّل فيه عَلَى الْإِجْمَاع قَالَ: وَقَدْ حُكِيَ فيه خِلَاف شَاذّ، وَوَرَدَ فيه أَيْضًا حَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الزُّرُوع وَالثِّمَار وَالْمَاشِيَة فَنُصُبُهَا مَعْلُومَة، وَرَتَّبَ الشَّرْع مِقْدَار الْوَاجِب بِحَسَبِ الْمُؤْنَة وَالتَّعَب فِي الْمَال، فَأَعْلَاهَا وَأَقَلّهَا تَعَبًا الرِّكَاز وَفيه الْخُمْس لِعَدَمِ التَّعَب فيه، وَيَلِيه الزَّرْع وَالثَّمَر، فَإِنْ سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاء وَنَحْوه فَفيه الْعُشْر، وَإِلَّا فَنِصْفه، وَيَلِيهِ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالتِّجَارَة وَفيها رُبُع الْعُشْر، لِأَنَّهُ يَحْتَاج إِلَى الْعَمَل فيه جَمِيعَ السَّنَةِ، وَيَلِيه الْمَاشِيَة فَإِنَّهُ يَدْخُلهَا الْأَوْقَاص بِخِلَافِ الْأَنْوَاع السَّابِقَة. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
|